الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وَقَالَ شيخ الإِسلامِ ـ رَحِمَهُ الله : (سورة طه) مضمونها تخفيف أمر القرآن وما أنزل الله ـ تعالى ـ من كتبه، فهي (سورة كتبه) ـ كما أن مريم (سورة عباده ورسله) ـ افتتحها بقوله: وتضمنت السورة ذكر موسي وآدم لما بينهما من المناسبة مما يقتضي / ذكرهما، ولما بينهما من المناظرة، فإن موسي نظير آدم في الأمر الذي صار لكل منهما، كما أن المسيح نظير آدم في الخلق، وقوله:
/وقال: في طريقتي العلم والعمل قال اللّه تعالى لموسي وهارون: فذكر في كل واحدة من الرسالتين العظيمتين ـ رسالة موسي ورسالة محمد ـ أن ذلك لأجل التذكر أو الخشية، ولم يقل: ليتذكر ويخشي، ولا قال: ليتقون ويحدث لهم ذكراً، بل جعل المطلوب أحد الأمرين، وهذا مطابق لقوله: / وقد قال عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه: نعم العبد صهيب، لو لم يخف اللّه لم يعصه، وذلك يرجع إلى تحقيق قوله: وسبب ذلك أن الخير إما بمعرفة الحق واتباعه في العلم والعمل جميعاً صلاح القول والعمل: العلم والإرادة. والعلم أصل العمل وأصل الإرادة والمحبة وغير ذلك، وهو مستلزم له ما لم يحصل معارض مانع. فالعلم بالحق يوجب اتباعه إلا لمعارض راجح: مثل اتباع الهوي بالاستكبار ونحوه، كحال الذين قال اللّه فيهم: فإن أصل الفطرة التي فطر الناس عليها إذا سلمت من الفساد إذا رأت الحق اتبعته وأحبته. إذ الحق نوعان: حق موجود: فالواجب معرفته والصدق في الإخبار عنه، وضد ذلك الجهل والكذب. وحق مقصود: وهو النافع للإنسان، فالواجب إرادته والعمل به، وضد ذلك إرادة الباطل واتباعه. ومن المعلوم أن اللّه خلق في النفوس محبة العلم دون الجهل، ومحبة الصدق دون الكذب، ومحبة النافع دون الضار، وحيث دخل ضد ذلك فلمعارض من هوي وكبر وحسد ونحو ذلك، كما أنه في صالح الجسد خلق اللّه فيه محبة الطعام والشراب الملائم له دون الضار، فإذا اشتهي ما يضره أو كره ما ينفعه فلمرض في الجسد، وكذلك ـ أيضاً ـ إذا اندفع عن النفس المعارض من الهوى والكبر والحسد وغير ذلك، أحب القلب ما ينفعه من العلم النافع والعمل الصالح، كما أن / الجسد إذا اندفع عنه المرض أحب ما ينفعه من الطعام والشراب، فكل واحد من وجود المقتضي وعدم الدافع سبب للآخر، وذلك سبب لصلاح حال الإنسان، وضدهما سبب لضد ذلك، فإذا ضعف العلم غلب [في المطبوعة:غلبه والتصويب من التفسير الكبير لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد الجليند 4/344] الهوي الإنسان، وإن وجد العلم والهوي وهما المقتضي والدافع فالحكم للغالب. وإذا كان كذلك فصلاح بني آدم، الإيمان والعمل الصالح،ولا يخرجهم عن ذلك إلا شيئان: أحدهما: الجهل المضاد للعلم، فيكونون ضلالاً. والثاني : اتباع الهوي والشهوة اللذين في النفس، فيكونون غواة مغضوبا عليهم؛ ولهذا قال : / وهم في الصلاح على ضربين: تارة يكون العبد إذا عرف الحق وتبين له اتبعه وعمل به، فهذا هو الذي يدْعَي بالحكمة وهو الذي يتذكر، وهو الذي يحدث له القرآن ذكراً. والثاني:أن يكون له من الهوي والمعارض ما يحتاج معه إلى الخوف الذي ينهي النفس عن الهوي؛ فهذا يدْعَي بالموعظة الحسنة وهذا هو القسم الثاني المذكور في قوله : {أَوْ يَخْشَى}، وفي قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.وقد قال في السورة في قصة فرعون: وفي قوله: وذلك لما ذكرناه من أن كل واحد من العلم بالحق الذي يتضمنه التذكر، والذكر الذي يحدثه القرآن، ومن الخشية المانعة من اتباع الهوي سبب لصلاح حال الإنسان، وهو مستلزم للآخر إذا قوي على / ضده، فإذا قوي العلم والتذكر دفع الهوي، وإذا اندفع الهوي بالخشية أبصر القلب وعلم. وهاتان هما الطريقة العلمية والعملية، كل منهما إذا صحت تستلزم ما تحتاج إليه من الأخري، وصلاح العبد ما يحتاج إليه ويجب عليه منهما جميعاً؛ ولهذا كان فساده بانتفاء كل منهما. فإذا انتفي العلم الحق كان ضالا غير مهتد، وإذا انتفي اتباعه كان غاويا مغضوبا عليه. ولهذا قال: فهو ـ سبحانه ـ يجمع بين الهدي والسعادة، وبين الضلال والشقاوة، / وبين حسنة الدنيا والآخرة، وسيئة الدنيا والآخرة، ويقرن بين العلم النافع والعمل الصالح، بين العلم الطيب والعمل الصالح، كما يقرن بين ضديهما وهو (الضلال)، و(الغي): اتباع الظن وما تهوي الأنفس. والقرينان متلازمان عند الصحة والسلامة من المعارض، وقد يتخلف أحدهما عن الآخر عند المعارض الراجح. فلهذا إذا كان في مقام الذم والنهي، والاستعاذة، كان الذم والنهي لكل منهما: من الضلال، والغي، من الجهل والظلم، من الضلال والغضب؛ ولأن كلا منهما صار مكروها مطلوب العدم، لا سيما وهو مستلزم للآخر، وأما في مقام الحمد والطلب ومنة اللّه فقد يطلب أحدهما، وقد يطلب كل منهما، وقد يحمد أحدهما، وقد يحمد كل منهما؛ لأن كلا منهما خير مطلوب محمود، وهو سبب لحصول الآخر، لكن كمال الصلاح يكون بوجودهما جميعاً، وهذا قد يحصل له إذا حصل أحدهما ولم يعارضه معارض، والداعي للخلق الآمر لهم يسلك بذلك طريق الرفق واللين، فيطلب أحدهما؛ لأنه مطلوب في نفسه، وهو سبب للآخر، فإن ذلك أرفق من أن يأمر العبد بهما جميعا، فقد يثقل ذلك عليه، والأمر بناء والنهي هدم، والأمر هو يحصل العافية بتناول الأدوية، والنهي من باب الحمية، والبناء والعافية تأتي شيئاً بعد شيء، وأما الهدم فهو أعجل، والحمية أعم، وإن كان قد يحصل فيهما / ترتيب ـ أيضاً ـ فكيف إذا كان كل واحد من الأمرين سبباً وطريقاً إلى حصول المقصود مع حصول الآخر. فقوله سبحانه: ولهذا قال سبحانه:
/ قَالَ شيخ الإسلام تقي الدين أَحمد بن تيمية ـ رَحمهُ اللّه تعالى: في قوله تعالي: وهذا يتبين بالكلام على ما قيل فيها. فإن منشأ الإشكال : أن الاسم المثني يعرب في حال النصب والخفض بالياء، وفي حال الرفع بالألف، وهذا متواتر من لغة العرب :/ لغة القرآن وغيرها في الأسماء المبنية، كقوله: ومثل هذا كثير مشهور في القرآن وغيره. فظن النحاة أن الأسماء المبهمة المبنية مثل هذين واللذين تجري هذا المجري، وأن المبني في حال الرفع يكون بالألف، ومن هنا نشأ الإشكال. وكان أبو عمرو إماماً في العربية، فقرأ بما يعرف من العربية: (إِنّ هذين لَسَاحرِاَنِ). وقد ذكر أن له سلفاً في هذه القراءة، وهو الظن / به: أنه لا يقرأ إلا بما يرويه، لا بمجرد ما يراه، وقد روي عنه أنه قال: إني لأستحيي من اللّه أن أقرأ: {إِنْ هَذَانِ}؛ وذلك لأنه لم ير لها وجهاً من جهة العربية، ومن الناس من خَطَّأ أبا عمرو في هذه القراءة، ومنهم الزجاج، قال: لا أجيز قراءة أبي عمرو، خلاف المصحف. وأما القراءة المشهورة الموافقة لرسم المصحف، فاحتج لها كثير من النحاة بأن هذه لغة بني الحارث بن كعب، وقد حكي ذلك غير واحد من أئمة العربية. قال المهدوي: بنو الحارث بن كعب يقولون: ضربت الزيدان، ومررت بالزيدان، كما تقول: جاءني الزيدان. قال المهدوي: حكي ذلك أبو زيد، والأخفش، والكسائي، والفراء، وحكي أبو الخطاب: أنها لغة بني كنانة، وحكي غيره: أنها لغة لخثعم، ومثله قول الشاعر: تزود مـنا بين أذنـاه ضربـة ** دعته إلى هاوي التراب عقيم وقـال ابن الأنباري [هو أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الشيباني، كاتب الإنشاء بديوان الخلافة ببغداد خمسين سنة. عَلَت مكانته عند الخلفاء والسلاطين، وناب في الوزارة، وأنفذ رسولاً إلى ملوك الشام وخراسان وكان فاضلاً أديبًا، ولد سنة 964 هـ، وتوفي سنة 855 هـ]: هي لغـة لبني الحارث بن كعب وقريش، قال الزجاج: وحكي أبو عبيدة عن أبي الخطاب ـ وهو رأس من رؤوس الرواة ـ أنها لغة لكنانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، وأنشدوا: فأطـرق إطراق الشجاع ولو يجد ** مساغا لناباه الشجاع لصمما / وقال: ويقول هؤلاء: ضربته بين أذناه. قلت: بنو الحارث بن كعب هم أهل نجران، ولا ريب أن القرآن لم ينزل بهذه اللغة، بل المثني من الأسماء المبنية في جميع القرآن هو بالياء في النصب والجر كما تقدمت شواهده. وقد ثبت في الصحيح عن عثمان أنه قال: إن القرآن نزل بلغة قريش، وقال للرهط القرشيين الذين كتبوا المصحف هم وزيد: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ فإن القرآن نزل بلغتهم، ولم يختلفوا إلا في حرف، وهو (التابوت) فرفعوه إلى عثمان، فأمر أن يكتب بلغة قريش. رواه البخاري في صحيحه. وعن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان،وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أَدْرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصاري، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصـة إلى عثمان، فـأمـر زيـد بن ثابت، وعبـد اللّه بن الزبير، وسـعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، / فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحَرَّق. وهذه الصحيفة التي أخذها من عند حفصة هي التي أمر أبو بكر وعمر بجمع القرآن فيها لزيد بن ثابت، وحديثه معروف في الصحيحين وغيرهما، وكانت بخطه؛ فلهذا أمر عثمان أن يكون هو أحد من ينسخ المصاحف من تلك الصحف، ولكن جعل معه ثلاثة من قريش ليكتب بلسانهم، فلم يختلف لسان قريش والأنصار إلا في لفظ : (التابوه)، و(التابوت)، فكتوبه: (التابوت) بلغة قريش. وهذا يبين أن المصاحف التي نسخت كانت مصاحف متعددة، وهذا معروف مشهور، وهذا مما يبين غلط من قال في بعض الألفاظ: إنه غلط من الكاتب، أو نقل ذلك عن عثمان، فإن هذا ممتنع لوجوه: منها: تعدد المصاحف، واجتماع جماعة على كل مصحف، ثم وصول كل مصحف إلى بلد كبير فيه كثير من الصحابة والتابعين يقرؤون القرآن ويعتبرون ذلك بحفظهم، والإنسان إذا نسخ مصحفاً غلط في بعضه عرف غلطه بمخالفة حفظه القرآن وسائر المصاحف، فلو قُدِّرَ أنه / كتب كاتب مصحفاً ثم نسخ سائر الناس منه من غير اعتبار للأول والثاني، أمكن وقوع الغلط في هذا، وهنا كل مصحف إنما كتبه جماعة ووقف عليه خلق عظيم ممن يحصل التواتر بأقل منهم، ولو قُدِّر أن الصحيفة كان فيها لحن فقد كتب منها جماعة لا يكتبون إلا بلسان قريش، ولم يكن لحناً، فامتنعوا أن يكتبوه إلا بلسان قريش، فكيف يتفقون كلهم على أن يكتبوا: {إِنْ هَذَانِ}، وهم يعلمون أن ذلك لحن لا يجوز في شيء من لغاتهم، أو: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ}، وهم يعلمون أن ذلك لحن، كما زعم بعضهم. قال الزجاج في قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ}: قول من قال: إنه خطأ ـ بعيد جداً، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والقدوة، فكيف يتركون شيئاً يصلحه غيرهم، فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم، وقال ابن الأنباري: حديث عثمان لا يصح؛ لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا ليصلحه من بعده. قلت:ومما يبين كذب ذلك: أن عثمان لو قدر ذلك فيه، فإنما رأي ذلك في نسخة واحدة، فإما أن تكون جميع المصاحف اتفقت على الغلط، وعثمان قد رآه في جميعها وسكت؛ فهذا ممتنع عادة وشرعًا من الذين كتبوا، ومن عثمان، ثم من المسلمين الذين وصلت إليهم المصاحف ورأوا ما فيها، وهم يحفظون القرآن، ويعلمون أن فيه لحناً / لا يجوز في اللغة، فضلاً عن التلاوة،وكلهم يقر هذا المنكر لا يغيره أحد، فهذا مما يعلم بطلانه عادة، ويعلم من دين القوم الذين لا يجتمعون على ضلالة، بل يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر أن يدَعوا في كتاب اللّه منكراً لا يغيره أحد منهم، مع أنهم لا غرض لأحد منهم في ذلك، ولو قيل لعثمان: مر الكاتب أن يغيره؛ لكان تغييره من أسهل الأشياء عليه. فهذا ونحوه مما يوجب القطع بخطأ من زعم أن في المصحف لحناً أو غلطاً، وإن نقل ذلك عن بعض الناس ممن ليس قوله حجة، فالخطأ جائز عليه فيما قاله، بخلاف الذين نقلوا ما في المصحف وكتبوه وقرؤوه فإن الغلط ممتنع عليهم في ذلك، وكما قال عثمان: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش، وكذلك قال عمر لابن مسعود: أقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل؛ فإن القرآن لم ينزل بلغة هذيل. وقوله تعالى في القرآن : / وحينئذ، فالذي يجب أن يقال: إنه لم يثبت أنه لغة قريش، بل ولا لغة سائر العرب: أنهم ينطقون في الأسماء المبهمة إذا ثنيت بالياء، وإنما قال ذلك من قاله من النحاة قياساً، جعلوا باب التثنية في الأسماء المبهمة كما هو في سائر الأسماء، وإلا فليس في القرآن شاهد يدل على ما قالوه، وليس في القرآن اسم مبهم مبني في موضع نصب أو خفض إلا هذا، ولفظه: {هَذَانِ}، فهذا نقل ثابت متواتر لفظاً ورسماً. ومن زعم أن الكاتب غلط فهو الغالط غلطاً منكراً، كما قد بُسِطَ في غير هذا الموضع، فإن المصحف منقول بالتواتر، وقد كتبت عدة مصاحف، وكلها مكتوبة بالألف، فكيف يتصور في هذا غلط. وأيضاً، فإن القراء إنما قرؤوا بما سمعوه من غيرهم، والمسلمون كانوا يقرؤون (سورة طه)، على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهي من أول ما نزل من القرآن، قال ابن مسعود: بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العِتَاق الأُوَل، وهُنَّ من تِلادي. رواه البخاري عنه. وهي مكية باتفاق الناس، قال أبو الفرج وغيره: هي مكية بإجماعهم، بل هي من أول ما نزل، وقد روي: أنها كانت مكتوبة عند أخت عمر، وأن سبب إسلام عمر كان لما بلغه إسلام أخته، وكانت السورة تُقْرَأ عندها. / فالصحابة لابد أن قد قرؤوا هذا الحرف، ومن الممتنع أن يكونوا كلهم قرؤوه بالياء كأبي عمرو، فإنه لو كان كذلك لم يقرأها أحد إلا بالياء، ولم تكتب إلا بالياء، فعلم أنهم أو غالبهم كانوا يقرؤونها بالألف كما قرأها الجمهور، وكان الصحابة بمكة والمدينة والشام والكوفة والبصرة يقرؤون هذه السورة في الصلاة وخارج الصلاة، ومنهم سمعها التابعون، ومن التابعين سمعها تابعوهم، فيمتنع أن يكون الصحابة كلهم قرؤوها بالياء مع أن جمهور القراء لم يقرؤوها إلا بالألف، وهم أخذوا قراءتهم عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، فهذا مما يعلم به قطعاً أن عامة الصحابة إنما قرؤوها بالألف كما قرأ الجمهور، وكما هو مكتوب. وحينئذ، فقد علم أن الصحابة إنما قرؤوا كما علَّمهم الرسول، وكما هو لغة للعرب، ثم لغة قريش، فعلم أن هذه اللغة الفصيحة المعروفة عندهم في الأسماء المبهمة تقول: إن هذان، ومررت بهذان: تقولها في الرفع والنصب والخفض بالألف، ومن قال: إن لغتهم أنها تكون في الرفع بالألف، طولب بالشاهد على ذلك والنقل عن لغتهم المسموعة منهم نثراً ونظما، وليس في القرآن ما يشهد له، ولكن عُمْدَتُهُ القياس. وحينئذ، فنقول: / قياس (هذا) بغيرها من الأسماء غلط،فإن الفرق بينهما ثابت عقلاً وسماعًا: أما النقل والسماع فكما ذكرناه، وأما العقل والقياس فقد تَفَطَّنَ للفرق غير واحد من حُذَّاقِ النحاةِ، فحكي ابن الأنباري وغيره عن الفراء قال: ألف التثنية في (هذان) هي ألف هذا، والنون فرقت بين الواحد والاثنين، كما فرقت بين الواحد والجمع نون الذين، وحكاه المهدوي وغيره عن الفراء، ولفظه قال: إنه ذكر أن الألف ليست علامة التثنية، بل هي ألف هذا، فزدت عليها نوناً، ولم أُغَيرْها، كما زدت على الياء من الذي، فقلت: الذين في كل حال، قال: وقال بعض الكوفيين: الألف في هذا مشبهة يفعلان، فلم تغير كما لم تغير. قال: وقال الجرجاني [هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني النحوي المشهور، واضع أصول البلاغة، كان من كبار أئمة اللغة العربية، من أهل جرجان له شعر رقيق، من كتبه أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، وكان شافعي المذهب، أشعري الأصول، توفي سنة 471هـ]: لما كان اسماً على حرفين أحدهما حرف مد ولين، وهو كالحركة، ووجب حذف إحدي الألفين في التثنية لم يحسن حذف الأولي؛ لئلا يبقي الاسم على حرف واحد، فحذف علم التثنية، وكان النون يدل على التثنية، ولم يكن لتغيير النون الأصلية الألف وجه، فثبت في كل حال كما يثبت في الواحد. قال المهدوي: وسأل إسماعيل القاضي ابن كيسان عن هذه المسألة فقال: لما لم يظهر في المبهم إعراب في الواحد ولا في الجمع، جرت التثنية على ذلك مجري الواحد، إذ التثنية يجب ألا تغير، فقال إسماعيل: ما أحسن ما قلت لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يؤنس به. فقال له ابن كيسان: فليقل القاضي / حتى يؤنس به، فتبسم !! قلت: بل تقدمه الفراء وغيره، والفراء في الكوفيين مثل سيبويه في البصريين، لكن إسماعيل كان اعتماده على نحو البصريين، والمبرد كان خصيصاً به. وبيان هذا القول : أن المفرد (ذا)، فلو جعلوه كسائر الأسماء؛ لقالوا في التثنية: (ذوان)، ولم يقولوا: (ذان)، كما قالوا: عصوان، ورجوان ونحوهما من الأسماء الثلاثية، و(ها) حرف تنبيه، وقد قالوا فيما حذفوا لامه : أبوان، فردته التثنية إلى أصله، وقالوا في غير هذا...[بياض بالأصل]: ويدان وأما (ذا)، فلم يقولوا: (ذوان)، بل قالوا كما فعلوا في (ذو)، و(ذات) التي بمعنى صاحب، فقالوا: هو ذو علم، وهما ذوا علم،كما قال: وأما المستعمل في الإشارة والأسماء الموصولة والمضمرات هي مبنية، / لكن أسماء الإشارة لم تفرق لا في واحده،ولا في جمعه بين حال الرفع والنصب والخفض،فكذلك في تثنيته، بل قالوا:قام هذا وأكرمت هذا، ومررت بهذا، وكذلك هؤلاء في الجمع، فكذلك المثني، قال هذان، وأكرمت هذان، ومررت بهذان، فهذا هو القياس فيه أن يلحق مثناه بمفرده وبمجموعه، لا يلحق بمثني غيره الذي هو ـ أيضاً ـ معتبر بمفرده ومجموعه. فالأسماء المعربة ألحق مثناها بمفردها ومجموعها، تقول: رجل، ورجلان، ورجال، فهو معرب في الأحوال الثلاثة؛ يظهر الإعراب في مثناه، كما ظهر في مفرده ومجموعة. فتبين أن الذين قالوا: إن مقتضي العربية أن يقال: (إن هذين) ليس معهم بذلك نقل عن اللغة المعروفة في القرآن التي نزل بها القرآن، بل هي أن يكون المثني من أسماء الإشارة مبنياً في الأحوال الثلاثة على لفظ واحد، كمفرد أسماء الإشارة ومجموعها. وحينئذ، فإن قيل: إن الألف هي ألف المفرد زيد عليها النون، أو قيل: هي علم للتثنية وتلك حذفت، أو قيل: بل هذه الألف تجمع هذا، وهذا معنى جواب ابن كيسان، وقول الفراء مثله في المعني، وكذلك قول الجرجاني، وكذلك قول من قال: إن الألف فيه تُشبه ألف يفعلان. / ثم يقال: قد يكون الموصول كذلك،كقوله: يؤيد ذلك، أن المضمرات من هذا الجنس، والمرفوع والمنصوب لهما ضمير متصل ومنفصل، بخلاف المجرور فإنه ليس له إلا متصل؛ لأن المجرور لا يكون إلا بحرف، أو مضاف لا يقدم على عامله، فلا ينفصل عنه، فالضمير المتصل في الواحد الكاف من أكرمتك ومررت بك، وفي الجمع أكرمتكم ومررت بكم، وفي التثنية زيدت الألف في النصب والجر، فيقال: أكرمتكما ومررت بكما، كما نقول في الرفع، ففي الواحد والجمع: فعلت وفعلتم، وفي التثنية: فعلتما بالألف وحدها زيدت علما على التثنية في حال الرفع والنصب والجر، كما زيدت في المنفصل في قوله: (إياكما) و (أنتما). فهذا كله مما يبين أن لفظ المثني في الأسماء المبنية في الأحوال الثلاثة نوع واحد، لم يفرقوا بين مرفوعه وبين منصوبه ومجروره، / كما فعلوا ذلك في الأسماء المعربة، وأن ذلك في المثني أبلغ منه في لفظ الواحد والجمع، إذ كانوا في الضمائر يفرقون بين ضمير المنصوب والمجرور، وبين ضمير المرفوع في الواحد والمثني، ولا يفرقون في المثني وفي لفظ الإشارة والموصول، ولا يفرقون بين الواحد والجمع وبين المرفوع وغيره، ففي المثني بطريق الأولي. والحمد للّه وحده،وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً. ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في موضع آخر، وذكر فيها هذا الاعتراض.
وقد يعْتَرض على ما كتبناه أولا بأنه جاء ـ أيضاً ـ في غير الرفع بالياء كسائر الأسماء، قال تعالى : وأما قوله: وهذا يبين أن الأصل في التثنية هي الألف، وعلى هذا فيكون في إعرابه لغتان جاء بهما القرآن؛ تارة يجعل كاللذان، وتارة يجعل كاللذين، ولكن في قوله: وأما قوله: فتبين أن هذا المسموع والمتواتر ليس في القياس الصحيح ما يناقضه، لكن بينهما فروق دقيقة، والذين استشكلوا هذا إنما استشكلوه من جهة القياس، لا من جهة السماع، ومع ظهور الفرق يعرف ضعف القياس. وقد يجيب من يعتبر كون الألف في هذا هو المعروف في اللغة بأن يفرق بين قوله: {إِنْ هَذَانِ}، وقوله: وحينئذ، فهذه القراءة هي الموافقة للسماع والقياس، ولم يشتهر / ما يعارضها من اللغة التي نزل بها القرآن. والله أعلم. وقوله: آخره والحمد لله وحده.
|